في الأيام التي كانت فيها مملكة إسرائيل تحت حكم داود الملك، حدثت أمور عظيمة مليئة بالدروس والعبر. وكانت القصة التي سنرويها اليوم من أصعب الفصول في حياة داود، حيث واجه تمردًا من داخل بيته، من ابنه الذي أحبه كثيرًا، أبشالوم.
كان أبشالوم ابنًا وسيمًا، ذا شعر كثيف وجمال أخاذ، حتى أن الكتاب المقدس يقول إنه لم يكن أحد في جميع إسرائيل أجمل منه. لكن جماله الخارجي لم يكن يعكس ما في قلبه من مكر وطموح للسلطة. فقد بدأ أبشالوم في التخطيط سرًا للاستيلاء على عرش أبيه، الملك داود.
بدأ أبشالوم بجذب قلوب الشعب إليه. كان يخرج في الصباح الباكر ويقف عند بوابة المدينة، حيث كان الناس يأتون ليحكموا في خصوماتهم. وكان أبشالوم يقول لهم: “انظروا، قضيتكم صالحة وحقّة، ولكن ليس من يسمع لكم من قِبَل الملك”. ثم يضيف: “ليتني أُقام قاضيًا في الأرض، فيأتي إليّ كل من له خصومة أو قضية، فأُنصفه”. وهكذا كان يمد يده ويصافح كل من يأتي إليه، ويظهر لهم التعاطف والمحبة، حتى سرق قلوب رجال إسرائيل.
ومع مرور الوقت، كسب أبشالوم شعبية كبيرة بين الناس. ثم طلب من أبيه الملك داود أن يسمح له بالذهاب إلى حبرون، مدعيًا أنه نذر نذرًا للرب هناك. فوافق داود، دون أن يعلم أن هذه كانت بداية خطة أبشالوم الشريرة. فذهب أبشالوم إلى حبرون، وأرسل جواسيس إلى جميع أسباط إسرائيل، قائلًا: “عندما تسمعون صوت البوق، فقولوا: أبشالوم قد ملك في حبرون”.
وهكذا، عندما جاء الوقت المحدد، أعلن أبشالوم نفسه ملكًا في حبرون، وبدأ التمرد ضد أبيه. وسرعان ما انضم الكثيرون إليه، حتى أن المؤامرة كانت قوية، والشعب الذي تبعه كان كثيرًا.
عندما سمع داود بالأمر، حزن حزنًا شديدًا. فقرر أن يترك أورشليم هربًا من وجه أبشالوم، خوفًا على حياة من معه وعلى المدينة المقدسة. فخرج داود ومعه جميع رجاله وعائلاتهم، وهم يبكون ويرفعون أصواتهم إلى الرب. وكان داود حافي القدمين، ورأسه مغطى كعلامة على الحزن والتواضع أمام الله.
وفي طريق هروبه، قابل داود العديد من الأشخاص الذين أظهروا ولاءهم له. منهم صادوق الكاهن واللاويون الذين حملوا تابوت العهد معهم. لكن داود قال لصادوق: “اردد تابوت الله إلى المدينة. إن وجدتُ نعمة في عيني الرب، فإنه سيردني وأراه ومسكنه. ولكن إن قال: لا أسرّ بك، فها أنا، فليفعل بي ما يحسن في عينيه”. وهكذا أظهر داود ثقته الكاملة في إرادة الله، حتى في أصعب لحظات حياته.
كما قابل داود حوشي الأركي، صديقه القديم، فأرسله إلى أورشليم ليكون عينًا له في وسط مؤامرة أبشالوم. وكان حوشي يدبر الحيلة ليفسد مشورة أخيتوفل، مستشار أبشالوم، الذي كان مشورته كأنها كلام الله.
وفي أثناء هروبه، تعرض داود للإهانة من شمعي بن جيرا، الذي كان يلعنه ويرميه بالحجارة. لكن داود، بدلًا من أن يردّ بالغضب، قال: “دعوه يلعن، لأن الرب قال له: العن داود. فمن يقول: لماذا فعلت هكذا؟”. وهكذا أظهر داود تواضعًا عميقًا وإيمانًا بأن الله هو الذي يدبر كل شيء.
استمر داود في رحلته المؤلمة، وهو يرفع صلاته إلى الله طالبًا القوة والحكمة. وكان يعلم أن هذه المحنة هي جزء من تدبير الله، وأنه يجب أن يخضع لإرادته المقدسة.
وهكذا، نرى في هذه القصة كيف أن داود، رغم كل الألم والخيانة التي واجهها، ظلّ ثابتًا في إيمانه بالله. لقد علّمنا أن الثقة في الله، حتى في أحلك الأوقات، هي السبيل الوحيد للخلاص. وأن التواضع والصبر هما السلاحان اللذان يمكن أن ينتصر بهما المؤمن على كل محنة.
فليكن لنا في داود قدوة، ولنثق دائمًا بأن الله هو الذي يدبر كل شيء، حتى عندما تبدو الأمور مستحيلة.