في مدينة كورنثوس، حيث كانت الكنيسة الناشئة تواجه تحديات روحية واجتماعية كبيرة، كتب الرسول بولس رسالة مليئة بالحكمة والتشجيع لتلاميذه هناك. وفي الإصحاح السادس من رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس، نجد كلمات عميقة تلامس قلوب المؤمنين وتدعوهم إلى حياة القداسة والاتحاد مع الله.
بدأ بولس كلامه بتذكير المؤمنين بنعمة الله التي تعمل في حياتهم، قائلاً: “نَحْنُ عَامِلُونَ مَعَ اللهِ، وَنَحْذَرُكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا نِعْمَةَ اللهِ بِاطِلًا.” كانت كلماته تحمل في طياتها دعوة صادقة لعدم إهمال النعمة الإلهية التي أُعطيت لهم مجانًا. فالنعمة ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي قوة تغير الحياة وتجعل المؤمن قادرًا على العيش في نور المسيح.
ثم واصل بولس حديثه بوصف التحديات التي واجهها هو وزملاؤه في خدمتهم، قائلاً: “فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ: فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ.” كانت هذه الكلمات تعكس واقع الخدمة التي لا تخلو من الصعوبات. فبولس ورفاقه عانوا من السجن، والجلد، والتعب، والجوع، ولكنهم في كل ذلك كانوا يظهرون صبرًا وإيمانًا كبيرًا. كانوا يعلمون أن هذه الآلام هي جزء من طريق الخدمة، وأنها لا تقارن بالمجد الأبدي الذي ينتظرهم.
ثم انتقل بولس إلى الحديث عن السلوك المسيحي الذي يجب أن يتحلى به المؤمنون، قائلاً: “فِي طَهَارَةٍ، فِي عِلْمٍ، فِي طُولِ أَنَاةٍ، فِي لُطْفٍ، فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ، فِي مَحَبَّةٍ بِلا رِيَاءٍ.” كانت هذه الصفات هي المفتاح لحياة روحية ناجحة. فالمؤمن مدعو لأن يعيش في طهارة، وأن يكون عالمًا بكلمة الله، وأن يتحلى بالصبر واللطف. كما أن محبة الله يجب أن تكون نابعة من القلب، دون رياء أو تظاهر.
ثم أكمل بولس حديثه بتذكير المؤمنين بضرورة الفصل بين النور والظلمة، قائلاً: “لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟” كانت هذه الكلمات تحذيرًا واضحًا من الاختلاط بالعالم بطرق تتعارض مع إيمانهم. فالمؤمن مدعو لأن يكون نورًا في العالم، ولكن دون أن يسمح للظلمة أن تؤثر على حياته الروحية.
وأخيرًا، ختم بولس هذا الجزء من رسالته بدعوة المؤمنين إلى التكريس الكامل لله، قائلاً: “لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلاَ تَمَسُّوا النَّجِسَ فَأَقْبَلَكُمْ.” كانت هذه الدعوة لتكريس النفس لله بمثابة ختم لكل ما سبق. فالمؤمن مدعو لأن يعتزل كل ما هو نجس وأن يقدس نفسه لله، لأنه هو الهيكل الحي للرب.
وهكذا، كانت رسالة بولس إلى أهل كورنثوس في الإصحاح السادس من رسالته الثانية بمثابة نداء قوي لحياة القداسة والاتحاد مع الله. ففي عالم مليء بالتحديات والضغوط، كان بولس يذكر المؤمنين بأنهم مدعوون ليكونوا مختلفين، ليكونوا نورًا في الظلمة، وأن يعيشوا بحسب مشيئة الله، متكلين على نعمته وقوته في كل وقت.