في تلك الأمسية الأخيرة قبل عيد الفصح، كان يسوع مع تلاميذه في علية كبيرة في أورشليم. كانت الغرفة مضاءة بمصابيح زيتية، تبعث نورًا دافئًا على الحاضرين. كان الجو مليئًا بالهدوء والوقار، لكن في قلوب التلاميذ كانت هناك تساؤلات كثيرة. كانوا يعلمون أن شيئًا عظيمًا على وشك الحدوث، لكنهم لم يفهموا تمامًا ما هو.
جلس يسوع مع تلاميذه حول المائدة، وكانت وجوههم تعكس الحيرة والترقب. فجأة، قام يسوع من المائدة، وخلع رداءه الخارجي، ولف حول وسطه منشفة. ثم صب ماء في مغسل وبدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كانت حول وسطه.
كان التلاميذ في صمت تام، ينظرون إلى هذا المشهد المذهل. كان غسل الأرجل عملًا من أعمال الخدمة المتواضعة التي كان يقوم بها العبيد عادةً. لكن هنا كان المعلم، الرب يسوع، ينحني ليغسل أرجلهم. كان بطرس، بطبعه الحماسي، أول من تكلم: “يا رب، أنت تغسل رجلي؟!” قالها بصوت مليء بالدهشة والرفض.
أجاب يسوع: “لستَ تعلم الآن ما أنا أفعله، ولكنك ستفهم فيما بعد.”
لكن بطرس أصر: “لن تغسل رجلي أبدًا!”
فقال له يسوع: “إن كنتُ لا أغسلك، فليس لك نصيب معي.”
عندها قال بطرس بسرعة: “يا رب، ليس رجلي فقط، بل أيضًا يدي ورأسي!”
أجاب يسوع: “الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله. وأنتم طاهرون، ولكن ليس كلكم.” كان يتكلم عن يهوذا الإسخريوطي، الذي كان قد عزم على تسليمه.
بعد أن غسل أرجلهم، لبس يسوع رداءه وجلس مرة أخرى. وقال لهم: “أتفهمون ما قد فعلته بكم؟ أنتم تدعونني معلّمًا وربًا، وحسَنًا تقولون، لأني أنا كذلك. فإن كنتُ أنا، الرب والمعلّم، قد غسلتُ أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لأني قد أعطيتكم مثالًا، حتى كما صنعتُ أنا بكم، تصنعون أنتم أيضًا.”
ثم أضاف: “الحق الحق أقول لكم: إن العبد ليس أعظم من سيده، ولا الرسول أعظم من مرسله. إن علمتم هذا، فطوبى لكم إن عملتموه.”
كانت كلمات يسوع تلامس قلوب التلاميذ بعمق. لقد فهموا أن هذه ليست مجرد خدمة جسدية، بل درسًا روحيًا عميقًا عن التواضع والمحبة. كان يسوع يعلمهم أن الخدمة الحقيقية هي طريق الملكوت، وأن المحبة هي العلامة الفارقة لأتباعه.
ثم استمر يسوع في حديثه، قائلًا: “ليس كل من يقول لي: يا رب يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات.” كانت كلماته تذكرهم بأن الإيمان الحقيقي يظهر من خلال الأعمال، وليس من خلال الكلمات فقط.
في تلك الليلة، كان يسوع يعد تلاميذه لما هو آت. كان يعلم أن ساعته قد اقتربت، وأنه سيسلم إلى الصليب. لكنه أراد أن يترك لهم درسًا لا يُنسى عن المحبة والتواضع، حتى يتذكروه دائمًا ويحياوا وفقًا لهذه القيم.
وبينما كانوا يجلسون معًا، كان نور المصابيح يلمع على وجوههم، وكأنه يرمز إلى النور الذي كان يسوع يتركه في قلوبهم. لقد كانت تلك الليلة بداية لرحلة جديدة، رحلة ستغير العالم إلى الأبد.