في ذلك الزمان، كان يسوع يجلس على جبلٍ عالٍ، محاطًا بتلاميذه وجموع كثيرة من الناس الذين جاءوا من كل مكان ليسمعوا تعاليمه. كانت الشمس تشرق بلون ذهبيّ، تلمع على وجوه الحاضرين الذين كانوا يتطلعون إليه بقلوبٍ متعطشة للحكمة. ففتح يسوع فمه وقال لهم بكلماتٍ مليئة بالسلطان والنعمة:
“لا تَدينوا لِكَي لا تُدانوا. لأنَّكُم بِالدَّينُونَةِ الَّتِي بِها تَدينُونَ تُدانُونَ، وَبِالكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكالُ لَكُم. وَلِماذا تَنْظُرُ القَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلا تُبْصِرُهَا؟ أَوْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ القَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهُوَذَا الخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً الخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ القَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ.”
كانت كلماته تلامس قلوب الحاضرين، فبدأوا يتأملون في حياتهم وأفعالهم. كان يسوع يعلمهم أن الحكم على الآخرين بغير رحمةٍ سيؤدي إلى حكمٍ قاسٍ عليهم هم أيضًا. ثم واصل قائلًا:
“لا تُعْطُوا القُدْسَ لِلْكِلاَبِ، وَلا تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ.”
كان يسوع يحذرهم من إضاعة الكنوز الروحية على من لا يقدرونها أو يفهمونها. كان يعلمهم أن الحكمة تكمن في معرفة من يستحق أن يشاركوه تعاليمه الثمينة.
ثم رفع صوته وقال:
“اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحْ لَهُ. أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا، أَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، أَيُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!”
كانت عيون الحاضرين تلمع بالرجاء، فقد فهموا أن الله أبٌ محبٌ، مستعدٌ أن يعطي خيراتٍ لمن يطلبونه بإيمان. ثم تابع يسوع تعليمه قائلًا:
“فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ، لأنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ.”
كانت هذه الكلمات تلخص كل التعاليم التي سبق وأن قالها. كان يسوع يعلمهم أن المحبة والرحمة هما أساس كل شيء. ثم أضاف:
“اُدْخُلُوا مِنَ البَابِ الضَّيِّقِ، لأنَّهُ وَاسِعٌ البَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الهَلاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! وَمَا أَضْيَقَ البَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!”
كانت كلماته تحمل تحذيرًا شديدًا، فالحياة مع الله تتطلب جهادًا وإخلاصًا، وليس مجرد اتباعٍ سطحيٍّ للتعاليم. ثم حذرهم من الأنبياء الكذبة قائلًا:
“اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الحَسَكِ تِينًا؟”
كان يسوع يعلمهم أن الأعمال هي التي تكشف حقيقة القلب، وليس الكلام وحده. ثم ختم تعليمه بقصةٍ توضيحية:
“كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ، أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ المَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذَلِكَ البَيْتَ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأنَّ أَسَاسَهُ كَانَ مُثَبَّتًا عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي هَذَا وَلا يَعْمَلُ بِهِ، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ المَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، فَصَدَمَتْ ذَلِكَ البَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا.”
كانت الجموع مندهشة من تعاليمه، فقد كان يتكلم بسلطانٍ لم يسمعوه من قبل. وكانت كلماته تلامس أعماق قلوبهم، داعيةً إياهم إلى بناء حياتهم على أساسٍ متينٍ من الإيمان والعمل بكلمة الله.
وهكذا، انتهى ذلك اليوم بتعاليمٍ غنيةٍ وحكيمةٍ، تركها يسوع كمنارةٍ تهدي كل من يسمعها إلى طريق الحياة الأبدية.