في الأيام الأخيرة من حياة يشوع بن نون، وقف الرجل العجوز الذي قاد شعب إسرائيل بكل حكمة وشجاعة أمام الجميع في شكيم. كان يشوع قد شاخ وتقدم في السن، لكن عينيه كانتا لا تزالان تلمعان بنور الإيمان والقوة التي منحه إياها الرب. اجتمع الشعب من كل أسباط إسرائيل، من الشمال إلى الجنوب، من الشرق إلى الغرب، ليسمعوا كلمات قائدهم العظيم قبل أن يرحل عن هذا العالم.
وقف يشوع على تل مرتفع يطل على الوادي، حيث كانت الشمس تلمع على وجوه الحاضرين، وكأن السماء نفسها كانت تشهد على هذا الاجتماع العظيم. رفع يشوع صوته، وكان صوته قوياً وواضحاً، كأنه صوت الرعد الذي يدوي في الجبال. قال: “هكذا يقول الرب إله إسرائيل: وراء النهر سكن آباؤكم منذ القديم، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى. فأخذت إبراهيم أباكم من وراء النهر وسرت به في كل أرض كنعان، وأكثرت نسله وأعطيته إسحاق.”
ثم واصل يشوع سرد تاريخ الشعب العظيم، وكيف أن الرب أخرج إسحاق ويعقوب من العبودية، وكيف أرسل موسى وهارون ليحررا بني إسرائيل من مصر. وصف المعجزات العظيمة التي صنعها الرب، من ضربات مصر إلى عبور البحر الأحمر، وكيف أن الرب جعل المياه تنشق ليمر شعبه بأمان، بينما أغرق جيوش فرعون في الأعماق.
ثم توقف يشوع للحظة، ونظر إلى الحشد الذي كان يصغي بكل اهتمام. قال: “ولكنكم لم تدخلوا الأرض التي وعدكم الرب بها بسهولة. لقد واجهتم مقاومة من الأموريين والكنعانيين والفرزيين والحثيين والجرجاشيين والحويين واليبوسيين. لكن الرب أعطاكم النصر عليهم، وأعطاكم أرضاً لم تتعبوا فيها، ومدناً لم تبنوها، وسكنتم فيها، وأكلتم من كروم وزيتون لم تغرسوها.”
ثم رفع يشوع صوته مرة أخرى، وكأنه كان ينادي بكل قوته الروحية: “فالآن اخافوا الرب واعبدوه بكل إخلاص وأمانة، واطرحوا الآلهة التي عبدها آباؤكم في مصر وبلاد ما بين النهرين، واعبدوا الرب. وإن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب، فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون: إما الآلهة التي عبدها آباؤكم في ما وراء النهر، أو آلهة الأموريين الذين تسكنون أرضهم. أما أنا وبيتي فنعبد الرب.”
كانت كلمات يشوع قوية ومؤثرة، وكأنها كانت تلامس قلوب كل من كان حاضراً. شعر الشعب بالرهبة والخشوع، وكأنهم كانوا يقفون أمام الرب نفسه. فأجاب الشعب بصوت واحد: “حاشا لنا أن نترك الرب ونعبد آلهة أخرى. لأن الرب إلهنا هو الذي أخرجنا من أرض مصر، من بيت العبودية، وهو الذي صنع أمام أعيننا آيات عظيمة، وحفظنا في كل الطريق التي سرنا فيها، وفي جميع الشعوب الذين عبرنا بينهم. والرب طرد من أمامنا جميع الشعوب والأموريين سكان الأرض. فنحن أيضاً نعبد الرب، لأنه هو إلهنا.”
نظر يشوع إلى الشعب بعينين حكيمتين، وكأنه كان يختبر إخلاصهم. فقال لهم: “لا تقدرون أن تعبدوا الرب، لأنه إله قدوس، إله غيور، لا يغفر ذنوبكم ولا خطاياكم. إذا تركتم الرب وعبدتم آلهة غريبة، فإنه يرجع ويضركم بعدما أحسن إليكم.”
لكن الشعب أصر على قراره، وقالوا: “كلا، بل نعبد الرب.” فأجابهم يشوع: “أنتم شهود على أنفسكم أنكم قد اخترتم لأنفسكم الرب لتعبدوه.” فقالوا: “نحن شهود.” فقال لهم: “فانزعوا إذاً الآلهة الغريبة التي بينكم، وأملوا قلوبكم إلى الرب إله إسرائيل.”
فأجاب الشعب: “الرب إلهنا نعبد، وصوته نسمع.” فكتب يشوع هذا الكلام في سفر شريعة الله، وأخذ حجراً كبيراً وأقامه تحت البلوطة التي عند مقدس الرب. وقال يشوع لجميع الشعب: “هوذا هذا الحجر يكون لنا شهادة، لأنه قد سمع كل كلام الرب الذي كلمنا به. فيكون شهادة عليكم لئلا تجحدوا إلهكم.”
ثم أطلق يشوع الشعب، كل واحد إلى ملكه. وبعد هذه الأيام مات يشوع بن نون، عبد الرب، ابن مئة وعشر سنين. فدفنوه في تخم ملكه في تمنة سارح التي في جبل أفرايم، شمالي جبل جاعش. وعبد إسرائيل الرب كل أيام يشوع، وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع، الذين عرفوا كل عمل الرب الذي عمله لإسرائيل.
وهكذا انتهت حياة يشوع، الرجل الذي قاد شعب إسرائيل بكل إخلاص وإيمان، وترك لهم إرثاً من الإيمان والطاعة للرب. وكان الحجر الذي أقامه يشوع شاهداً على العهد الذي قطعه الشعب مع الرب، ليذكرهم دائماً بأن الرب هو إلههم الوحيد، الذي يستحق العبادة والإكرام إلى الأبد.