في ذلك اليوم، كان يسوع يتحدث مع تلاميذه في العلية، المكان الذي اعتادوا أن يجتمعوا فيه. كانت الأجواء مشحونة بمشاعر مختلطة من الحزن والقلق، لأنهم كانوا يشعرون بأن شيئًا عظيمًا على وشك الحدوث. كان يسوع يعلم أن ساعته قد اقتربت، وأنه سيتركهم قريبًا. لكنه أراد أن يطمئن قلوبهم ويعطيهم تعاليمًا أخيرة تبقى معهم بعد رحيله.
بدأ يسوع بالكلام بصوته الهادئ الذي كان يملأ الغرفة بالسلام: “لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي أيضًا.” كانت كلماته تلامس أعماق قلوبهم، وكأنها تذكير بأن الإيمان به هو الطريق إلى الآب. ثم أضاف: “في بيت أبي منازل كثيرة. وإلا فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضي لأعد لكم مكانًا.”
تلاميذه استمعوا باهتمام، لكن قلوبهم كانت ثقيلة. بطرس، الذي كان دائمًا الأكثر جرأة في التحدث، سأل: “يا سيد، إلى أين تذهب؟” نظر إليه يسوع بعينين مليئتين بالحب وقال: “أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي.” كانت هذه الكلمات بمثابة نور يضيء الطريق أمامهم، مؤكدة أن يسوع هو الوسيط الوحيد بين الله والناس.
ثم واصل يسوع كلامه: “لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه.” فيلبس، الذي كان يستمع بتركيز، قال: “يا سيد، أرنا الآب وكفانا.” ابتسم يسوع برقة وقال: “أنا معكم كل هذا الوقت، يا فيلبس، ولم تعرفني بعد؟ الذي رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول: أرنا الآب؟”
كان يسوع يشرح لهم أن العلاقة بينه وبين الآب هي علاقة وثيقة لا تنفصم. ثم أضاف: “أنا في الآب والآب فيّ. الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال.” كان يسوع يؤكد لهم أن كل ما يفعله ويقوله هو انعكاس لإرادة الآب.
ثم وعدهم بشيء عظيم: “الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها، لأني ماضٍ إلى الآب.” كانت هذه الكلمات تلميحًا إلى أن التلاميذ سينالون قوة من الروح القدس ليكملوا العمل الذي بدأه يسوع.
وأضاف: “ومهما سألتم باسمي فإني أفعله، ليتمجد الآب في الابن. إن سألتم شيئًا باسمي فإني أفعله.” كان يسوع يعلمهم أن الصلاة باسمه ستكون قوية وفعالة، لأنها مرتبطة بإرادة الآب.
ثم قال لهم كلمات مليئة بالراحة: “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم.”
كان يسوع يتحدث عن الروح القدس، الذي سيأتي ليكون معهم بعد رحيله. ثم أكمل: “لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم. بعد قليل لا يراني العالم أيضًا، وأما أنتم فترونني. إني أنا حيّ فأنتم ستحيون.” كانت هذه الكلمات تذكيرًا بأنه، رغم أنه سيتركهم جسديًا، إلا أنه سيكون معهم دائمًا بروحه.
ثم ختم يسوع حديثه بقوله: “السلام أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب.” كانت هذه الكلمات بمثابة هدية روحية، سلام داخلي لا يعتمد على الظروف الخارجية، بل على العلاقة معه ومع الآب.
بعد أن انتهى يسوع من كلامه، شعر التلاميذ بسلام غريب يملأ قلوبهم. كانوا لا يزالون لا يفهمون كل شيء، لكنهم شعروا بأن يسوع كان يعدهم بمستقبل مليء بالرجاء والقوة. كانوا يعلمون أن الطريق أمامهم لن يكون سهلاً، لكنهم كانوا واثقين بأنه لن يتركهم أبدًا.