في الأيام التي تلت انتصار داود على ابنه أبشالوم، كانت المشاعر مختلطة في قلوب الشعب والقادة. فقد انتصر الملك على الثورة، لكنه خسر ابنه في المعركة. كان داود جالسًا في قصره في محنايم، ووجهه مغطى بالحزن. رغم انتصاره، كان قلبه مثقلًا بفقدان أبشالوم. ولم يكن يعلم أن الشعب بدأ يشعر بالقلق من صمته وحزنه الطويل.
كان يوآب، قائد الجيش، رجلًا حكيمًا وعنيفًا في نفس الوقت. رأى أن حزن داود قد بدأ يؤثر على معنويات الشعب. فجمع الشيوخ والقادة وقال لهم: “انظروا، الملك يبكي وينوح على أبشالوم، بينما نحن الذين انتصرنا في المعركة. لو استمر هذا الحزن، سيفقد الشعب ثقته في الملك، وسيعودون إلى بيوتهم خائفين ومحبطين.”
ثم قرر يوآب أن يتحدث إلى داود مباشرة. دخل على الملك في غرفته الخاصة، حيث كان داود جالسًا على الأرض، يغطي وجهه بيديه. قال يوآب بصوت حازم: “يا سيدي الملك، لقد أنقذت اليوم أرواح جميع خدامك، لكنك تتصرف وكأنك تتمنى لو أننا كلنا قد متنا في المعركة. ألا ترى أن حزنك هذا يجعل الشعب يشعر بالخزي؟ يجب أن تظهر لهم أنك ممتن لانتصارهم، وأنك تقدر تضحياتهم.”
رفع داود رأسه، وعيناه مليئتان بالدموع. نظر إلى يوآب وقال: “أنت محق، يا يوآب. لقد سمحت لحزني أن يسيطر عليّ، ولكنني لن أسمح له بأن يؤثر على شعب الله.” ثم نهض داود من مكانه، وذهب إلى بوابة المدينة، حيث كان الشعب ينتظر. جلس على العرش هناك، وبدأ يستقبل الناس واحدًا تلو الآخر.
عندما رأى الشعب أن الملك قد عاد إلى مكانه، بدأوا يتجمعون حوله. كانوا يريدون أن يسمعوا كلماته، وأن يشعروا بقيادته من جديد. فقال داود بصوت واضح وقوي: “أيها الشعب، لقد مررنا بأيام صعبة، ولكن الله كان معنا. لقد انتصرنا على أعدائنا، وسنستمر في السير في طريقه. أشكركم على ولائكم وتضحياتكم.”
بدأت الأرواح تعلو، وبدأ الشعب يشعر بالفرح مرة أخرى. لكن داود كان يعلم أن هناك عملًا آخر يجب أن يفعله. فقد كان هناك انقسام بين أسباط إسرائيل، خاصة بين يهوذا وبقية الأسباط. كان أبناء يهوذا قد ترددوا في العودة إلى داود بعد الثورة، خوفًا من عقابه. فأرسل داود إلى شيوخ يهوذا يقول: “لماذا أنتم آخر من يعود إلى الملك؟ ألستم إخوتي وعظامي ولحمي؟ لماذا تتأخرون في إعادة الملك إلى عرشه؟”
ثم أرسل داود إلى صادق وأبياثار الكاهنين، وقال لهما: “قولا لشيوخ يهوذا: لماذا تترددون؟ الملك يريد أن يعود إلى أورشليم، ولكنكم تتأخرون. ألا تعلمون أنكم أول من يجب أن يعيد الملك إلى مكانه؟”
عندما سمع شيوخ يهوذا كلمات داود، أدركوا خطأهم. فأرسلوا رسلًا إلى داود يقولون: “نحن خدامك، وسنعود معك إلى أورشليم.” فخرج داود من محنايم، وعبر نهر الأردن مع كل الشعب. وكانت هناك فرحة عظيمة عندما رأى الجميع الملك يعود إلى عرشه.
ولكن في وسط هذا الفرح، كان هناك رجل اسمه شمعي بن جيرا، الذي كان قد لعن داود عندما هرب من أورشليم أثناء ثورة أبشالوم. جاء شمعي مع ألف رجل من بنيامين، وسجد أمام داود وقال: “يا سيدي الملك، اغفر لي خطيتي. لقد أخطأت عندما لعنتك، ولكنني أتوب الآن وأرجو رحمتك.”
وقف أبيشاي، أحد قادة داود، وقال: “أليس من العدل أن يموت شمعي لأنه لعن مسيح الرب؟” لكن داود رد عليه قائلًا: “ما لكم ولشمعي؟ اليوم هو يوم فرح وليس يوم انتقام. هل سأقتل رجلًا تاب عن خطيئته؟”
ثم التفت داود إلى شمعي وقال: “لن تموت اليوم.” وهكذا أظهر داود رحمة حتى لأعدائه، مؤكدًا أن الله هو من يدين وليس البشر.
استمرت الرحلة إلى أورشليم، وكان الشعب يزداد فرحًا مع كل خطوة. وعندما وصلوا إلى المدينة، استقبلهم الجميع بترحيب كبير. جلس داود على عرشه مرة أخرى، وبدأ في إعادة بناء المملكة. لكنه كان يعلم أن الطريق إلى الشفاء الكامل سيكون طويلًا، وأن عليه أن يعتمد على الله في كل خطوة.
وهكذا، رغم الحزن والخسارة، عاد داود إلى عرشه برحمة وحكمة، مؤكدًا أن الله هو من يقود شعبه إلى النصر والسلام.