**الجبل المقدس والعظة الإلهية**
في ذلك اليوم، اجتمع آلاف الناس عند سفح الجبل، ينتظرون كلمة من المعلم يسوع. كانت الشمس تميل نحو الغروب، تلوّح بأشعتها الذهبية على وجوه الحاضرين، بينما هبّت نسمة لطيفة تحمل عبير الأزهار البرية المنتشرة على التلال. جلس التلاميذ قريبًا من الرب، بينما وقف البعض وآخرون استلقوا على العشب الأخضر، جميعهم يصغون بقلوب مفتوحة لكلمات الحياة الأبدية.
رفع يسوع عينيه نحو السماء، ثم نظر إلى الجمع وقال بصوته الهادئ العميق: **”لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا. لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّتِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ.”**
ساد صمتٌ عميقٌ بين الحاضرين. كان بعض الفريسيين واقفين في الخلف، يتبادلون النظرات، إذ كانوا معتادين على إصدار الأحكام على الآخرين. لكن كلمات المسيح اخترقت قلوبهم كالسيف. تابع الرب: **”وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟”**
ضحك بعض التلاميذ خفيةً، لأن المثل كان واضحًا وقويًا. ثم أشار الرب إلى رجلٍ في الجمع كان يحمل سلةً مليئةً بالتمر، وقال: **”هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ الْجَمِيعُ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟”**
أدرك الحاضرون أن القلب الفاسد لا يُنتج إلا شرًا، والقلب الطاهر يثمر صلاحًا. ثم تابع يسوع: **”اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحْ لَهُ.”**
ارتسمت علامات الرجاء على وجوه الحاضرين، خاصة الفقراء والمرضى الذين كانوا يأملون في عون الله. ثم ضرب لهم مثلًا: **”أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا، أَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ سَأَلَهُ سَمَكًا، أَيُعْطِيهِ حَيَّةً؟”**
هزّ الجميع رؤوسهم بالنفي، فأكمل الرب: **”فَإِنْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ أَشْرَارًا تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!”**
ثم انتقل الرب إلى تحذيرهم من الطرق الواسعة التي تؤدي إلى الهلاك، فقال: **”اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! وَمَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!”**
تأمل التلاميذ في هذه الكلمات، إذ عرفوا أن طريق القداسة ليس سهلاً، لكنه يستحق كل جهد. ثم حذرهم الرب من الأنبياء الكذبة، فقال: **”اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!”**
سأله أحد التلاميذ: **”يا معلم، كيف نعرفهم؟”** فأجاب الرب: **”مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ! هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟”**
ثم ختم الرب عظته بكلمات لا تنسى: **”فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ عَاقِل بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. وَأَمَّا كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، فَيُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِل بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، فَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ، فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا!”**
انتهت العظة، وبقي الجمع في صمتٍ عميقٍ، كلٌ يتأمل في كلمات الرب. بعضهم عاد إلى بيته بتوبة جديدة، وآخرون بدأوا يسيرون في الطريق الضيق. أما التلاميذ، فقد أدركوا أن كلام سيدهم ليس مجرد حكمة بشرية، بل هو كلام الحياة الأبدية.