**قصة بولس وسيلا في فيلبي: انطلاق البشارة في أوروبا**
في تلك الأيام، بينما كان الرسول بولس يسافر من مدينة إلى أخرى ليكرز بالإنجيل، أوحى له الروح القدس أن يتجه نحو منطقة جديدة لم يزرها من قبل. فقد رأى في الليل رؤيا فيها رجل مكدوني واقف يطلب إليه قائلاً: “اعبر إلى مكدونية وأعِنَّا!” ففهم بولس أن الرب يدعوه ليبشر في أوروبا، فاستعد هو ورفيقه سيلا وتيموثاوس ولوقا للإبحار.
وبعد أيام من السفر عبر البحر، وصلوا إلى فيلبي، وهي مدينة رومانية عظيمة في مقاطعة مكدونية. وكانت فيلبي مستعمرة رومانية يحكمها قادة عسكريون، يسكنها مزيج من الرومان واليونانيين والمكدونيين. ولم يكن فيها مجمع لليهود، لأن عدد اليهود كان قليلاً، فكانوا يجتمعون للصلاة خارج المدينة عند نهر صغير.
في يوم السبت، خرج بولس ورفاقه إلى ذلك المكان، حيث وجدوا مجموعة من النساء يتعبدن. فجلس معهن وبدأ يخبرهن عن المسيح، كيف مات وقام من أجل خطايا العالم. وكانت بين تلك النساء امرأة تدعى ليدية، بائعة الأرجوان من مدينة ثياتيرا، وهي امرأة متدينة تخاف الله. ففتح الرب قلبها لتصغي إلى كلام بولس، فآمنت بالرب يسوع ومعها أهل بيتها، فاعتمدت هي وأسرتها، ثم ألحت على الرسل قائلة: “إن كنتم قد حكمتم أني مؤمنة بالرب، فادخلوا بيتي وامكثوا فيه.” فأقنعتهم فمكثوا عندها.
وفي أحد الأيام، بينما كان بولس وسيلا ذاهبين إلى مكان الصلاة، استقبلهما جارية بها روح عرافة، كانت تكسب سادتها مالاً كثيراً بالعرافة. وكانت تتبع الرسل وتصرخ قائلة: “هؤلاء الناس هم عبيد الله العلي، يخبرونكم بطريق الخلاص!” واستمرت على هذا أياماً كثيرة، فانزعج بولس من تصرفها، والتفت إلى الروح الذي فيها وقال: “أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها!” فخرج الروح في الحال.
ولكن عندما رأى سادتها أن رجاء ربحهم قد ضاع، أمسكوا ببولس وسيلا وجروهما إلى السوق أمام الحكام، وقالوا: “هذان الرجلان يقلقان مدينتنا، وهما يهوديان، ويبشران بعادات لا يجوز لنا أن نقبلها نحن الرومانيون!” فثارت الجموع، والأمراء مزقوا ثيابهما وأمروا بضربهما بالعصي. ثم ألقوهما في السجن، وأوصوا حارس السجن أن يحفظهما بضبط. فوضعوهما في أعمق مكان في السجن، وقيّدوا أرجلهما في المقطرة.
وفي منتصف الليل، بينما كان بولس وسيلا يصلّيان ويسبحان الله، والمسجونون يسمعونهما، حدثت زلزلة عظيمة حتى تزعزعت أساسات السجن، وانفتحت الأبواب كلها، وانفكت قيود الجميع. فاستيقظ حارس السجن، ولما رأى أبواب السجن مفتوحة، استل سيفه ليقتل نفسه، ظاناً أن المسجونين قد هربوا. لكن بولس صرخ بصوت عظيم قائلاً: “لا تفعل بنفسك شيئاً رديئاً، لأننا جميعنا هنا!”
فطلب الحارس مصباحاً واندفع إلى الداخل، وخرّ أمام بولس وسيلا مرتعداً، ثم أخرجهما وقال: “يا سيديَّ، ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟” فقالا له: “آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك.” ثم كلماه وجميع من في بيته بكلمة الرب، فأخذ الحارس بولس وسيلا في تلك الساعة عينها وغسلهما من الجراحات، ثم اعتمد هو والذين له في الحال. وأصعدهما إلى بيته وقدّم لهما مائدة، وتهلل مع جميع بيته إذ كان قد آمن بالله.
وعندما أصبح الصباح، أرسل الأمراء الجلادين قائلين: “أطلق ذينك الرجلين!” فأخبر حارس السجن بولس بهذا الكلام، فقال بولس: “إنهم ضربونا جهراً ونحن رومانيون ولم نحاكم، ثم ألقونا في السجن، والآن يطردوننا سراً؟ كلا! بل ليأتوا هم أنفسهم ويخرجونا!” فلما سمع الأمراء أنهما رومانيان، خافوا وجاءوا وطلبوا إليهما بإلحاح أن يخرجا من المدينة. فخرجا من السجن ودخلا إلى بيت ليدية، فرأيا الإخوة ووعظاهم، ثم مضيا.
وهكذا، رغم الاضطهاد والمعاناة، انتشرت كلمة الرب في فيلبي، وتأسست كنيسة قوية فيها. وكانت هذه بداية البشارة في أوروبا، حيث أظهر الله قوته من خلال الصلاة والتسبيح، وحوّل ظلام السجن إلى نور خلاص، وضيق الاضطهاد إلى فرح الإنجيل.