**نَشِيدُ المَرَثَاةِ: أُورُشَلِيمُ تَبْكِي وَحِيدَةً**
فِي أَيَّامِ الضِّيقِ وَالذُّلِّ، حِينَ سَقَطَتْ أُورُشَلِيمُ العَظِيمَةُ بَيْنَ أَيْدِي الأَعْدَاءِ، جَلَسَتْ عَلَى الأَرْضِ كَأَرْمَلَةٍ حَزِينَةٍ، تَسْكُبُ دُمُوعَهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. كَانَتْ مَدِينَةُ اللهِ القَدِيمَةُ، الَّتِي امْتَلَأَتْ بِالضَّجَّةِ وَالاِبْتِهَاجِ، قَدْ صَارَتْ خَالِيَةً، كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَطُّ مَوْطِنًا لِلأَفْرَاحِ. سُبِيَ شَعْبُهَا بِالقَسْوَةِ، وَانْتَشَرَ الذُّلُّ بَيْنَ أَبْنَائِهَا كَالنَّارِ فِي الْحَقْلِ.
كَانَتْ أُورُشَلِيمُ فِي مَا مَضَى مَلِكَةً بَيْنَ الأُمَمِ، تَجْلِسُ عَلَى عَرْشِ الْمَجْدِ، وَالآنَ صَارَتْ خَادِمَةً تَحْمِلُ أَثْقَالَ غُرَبَاءَ. بَكَتْ بِمَرَارَةٍ فِي الظَّلَامِ، وَلَيْسَ مَنْ يُعَزِّيهَا. تَذَكَّرَتْ أَيَّامَ سَابِقَةٍ حِينَ كَانَتْ مَحْبُوبَةً مِنَ الرَّبِّ، فَصَارَ حُزْنُهَا أَشَدَّ وَوَجْدُهَا أَعْظَمَ.
الأَعْدَاءُ اِسْتَهَانُوا بِهَا، وَضَحِكُوا عَلَى دَمَارِهَا. كُلُّ مَنْ كَانُوا أَحِبَّاءَهَا فِي مَا مَضَى خَانُوهَا، وَصَارُوا لَهَا أَعْدَاءً. رَأَتْ بَنُوهَا يَذْهَبُونَ إِلَى السَّبْيِ، عَاجِزِينَ عَنِ المُقَاوَمَةِ، وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِعَيْنَيْنِ مُمْتَلِئَتَيْنِ بِالدَّمْعِ. لَمْ يَبْقَ لَهَا سِوَى الذِّكْرَيَاتِ الْمُرَّةِ، وَالآهَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِهَا.
الطُّرُقَ الَّتِي كَانَتْ مَمْلُوءَةً بِالزَّحَامِ وَالضَّوْضَاءِ صَارَتْ مُقْفِرَةً. أَبْوَابُهَا الَّتِي كَانَتْ تَزْدَحِمُ بِالزُّوَّارِ وَالتُّجَّارِ صَارَتْ مُهْدَمَةً. كَاهِنُوهَا يَتَنَهَّدُونَ، وَعَذَارَاهَا مَغْلُوبَاتٌ بِالْحُزْنِ. كُلُّ جَمَالِهَا ذَهَبَ مَعَ الرِّيحِ، وَصَارَتْ مَوْضِعَ سُخْرِيَةٍ لِلْجِيرَانِ.
الْخَطِيئَةُ هِيَ السَّبَبُ! نَعَمْ، هِيَ الَّتِي جَلَبَتْ هَذَا الْعَذَابَ! لَقَدْ تَمَرَّدَتْ أُورُشَلِيمُ عَلَى الرَّبِّ، وَسَارَتْ وَرَاءَ آلهَةٍ غَرِيبَةٍ. لِذَلِكَ جَاءَهَا الْعِقَابُ شَدِيدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُنْقِذٌ. حَتَّى أَوْلَادُهَا ذَهَبُوا إِلَى السَّبْيِ أَمَامَ الْعَدُوِّ، وَانْكَسَرَتْ قُوَّتُهَا كُلُّهَا.
الرَّبُّ عَادَلَهَا بِحَسَبِ خَطَايَاهَا، وَلَكِنَّ قَلْبَهُ يَتَأَلَّمُ لِأَجْلِهَا. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ هَذَا الدَّمَارَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَاسِيًا. فِي وَسَطِ الْعِقَابِ، يَنْتَظِرُ تَوْبَتَهَا، وَيَتَذَكَّرُ مَحَبَّتَهُ الْقَدِيمَةَ لَهَا. لِهَذَا تَبْكِي أُورُشَلِيمُ، وَتَصْرُخُ إِلَى الرَّبِّ: “انْظُرْ إِلَى ضِيقِي، يَا رَبِّ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ قَدِ اعْتَزَى عَلَيَّ!”
فِي اللَّيْلِ، حِينَ تَخْرُسُ الأَصْوَاتُ، تُسْمَعُ أَنِينُهَا: “يَا رَبِّ، إِنِّي خَاطِئَةٌ. ارْحَمْنِي وَأَعِدْنِي إِلَيْكَ!” وَمَعَ أَنَّ الضِّيقَ عَظِيمٌ، فَإِنَّ رَحْمَةَ الرَّبِّ أَعْظَمُ. فَمَنْ يَعْلَمُ؟ لَعَلَّ يَوْمَ الْفِدَاءِ قَرِيبٌ، حِينَ تَرْجِعُ أُورُشَلِيمُ إِلَى مَجْدِهَا، وَتَكُونُ دُمُوعُهَا فَرَحًا!