**قصة شاول الطرسوسي أمام الملك أغريباس**
في مدينة قيصرية، حيث البحر الأبيض المتوسط يلامس الشاطئ بأمواجه الزرقاء، وقفت قلعة هيرودس شامخة، شاهدة على أحداث عظيمة. كان الجو مشحونًا بالرهبة حين دخل الوالي فستوس والملك أغريباس القاعة الملكية، يرافقهما كبار قادة الجيش ووجهاء المدينة. وكان بين الحضور رجلٌ يُدعى شاول، المعروف أيضًا ببولس، الذي كان مقيّدًا بالسلاسل لكنّ عينيه تشعان بإيمان لا يُقهَر.
بدأ فستوس الحديث، موجّهًا كلامه إلى الملك أغريباس: “أيها الملك، هذا هو الرجل الذي استُسلم من أورشليم، وقد طالب الكهنة وشيوخ اليهود بإدانته. ولكنّي لم أجد فيه ذنبًا يستحق الموت. ولما أرادوا محاكمته في أورشليم، قرّرت إرساله إلى قيصر. لكنّي لا أملك ما أكتب به إلى السيد، لذلك أحضرته أمامك، وأخصّك أيها الملك أغريباس، لعلّي بعد الاستماع إليه أعرف ما أكتب.”
فالتفت أغريباس إلى بولس وقال: “أُذِنَ لك أن تتكلّم عن نفسك.” فرفع بولس يده المقيّدة بسلسلة، ليس كمتهمٍ، بل كشاهدٍ للمسيح، وبدأ حديثه بصوتٍ هادئٍ لكنه قوي:
“أحسب نفسي سعيدًا أيها الملك أغريباس، لأني سأُحاجج اليوم أمامك بكل ما اتّهمني به اليهود، خصوصًا لأنك خبيرٌ بكل عادات اليهود ومجادلاتهم. فأرجو أن تسمعني بصبر.”
ثم استرسل بولس في سرد قصته: “إن حياتي منذ الصغر معروفة بين اليهود، فقد نشأت في طرسوس، ثم أتيت إلى أورشليم لأتعلّم عند قدمي غمالائيل، معلّم الشريعة المشهور. كنت غيورًا على تقاليد آبائي، مضطهدًا أتباع هذا الطريق، أي المسيحيين، حتى الموت، مقيدًا إياهم ومسلمًا إياهم إلى السجون. وكان الكهنة والشيوخ يشهدون لي بذلك.”
ثم رفع بولس صوته قليلًا، ووصف اللحظة التي غيّرت حياته إلى الأبد: “وفي ذات يوم، بينما كنت في طريقي إلى دمشق بسلطةٍ من رؤساء الكهنة، رأيت في منتصف النهار نورًا من السماء، أشدّ لمعانًا من الشمس، يحيط بي وبالذين كانوا معي. فسقطنا جميعًا على الأرض، وسمعت صوتًا يقول لي باللغة العبرانية: ‹شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟ صعبٌ عليك أن ترفس مناخس.› فقلت: ‹من أنت يا سيد؟› فأجابني: ‹أنا يسوع الذي أنت تضطهده.›”
توقّف بولس للحظة، وكأنه يعيش تلك الذكرى من جديد، ثم واصل: “فقال لي الرب: ‹قم وقف على رجليك، لأني لهذا ظهرت لك، لأختارك خادمًا وشاهدًا بما رأيت وما سأظهره لك. أنا أنقذك من الشعب اليهودي ومن الأمم الذين أرسلك إليهم، لتفتح عيونهم كي يرجعوا من الظلمات إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله.›”
ثم نظر بولس إلى الملك أغريباس بعينين ملؤهما الإيمان، وقال: “لذلك أيها الملك أغريباس، لم أكنْ عصيًا للرؤيا السماوية، بل بشرت أولًا الذين في دمشق وأورشليم، ثم كل كورة اليهودية، وبعد ذلك بالأمم، أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله، عاملين أعمالًا تليق بالتوبة.”
ساد صمتٌ ثقيل في القاعة، ثم قطع بولس الصمت قائلًا: “لهذا أمسكني اليهود في الهيكل وحاولوا قتلي. ولكن بمعونة الله، ما زلتُ إلى اليوم شاهـدًا للصغير والكبير، قائلًا ليس إلا ما قاله الأنبياء وموسى: إنه ينبغي أن المسيح يتألم، وأنه أول من يقوم من الأموات، سينادي بنورٍ للشعب وللأمم.”
وفي هذه اللحظة، قطع فستوس حديث بولس صارخًا: “إنك تهذي يا بولس! الكتب الكثيرة تُزعجك حتى جُننت!”
فأجاب بولس بهدوء: “لستُ أهذي أيها العزيز فستوس، بل أنطق بكلمات الصدق والعقل. فالملك أغريباس عالم بهذه الأمور، ولذلك أتكلّم أمامه بجرأة، لأني واثقٌ أنه لم يخفَ عليه شيءٌ من هذا، إذ لم يكن هذا الأمر في زاوية!”
ثم التفت بولس إلى الملك وقال: “أتؤمن بالأنبياء أيها الملك أغريباس؟ أنا أعلم أنك تؤمن!”
فأجاب أغريباس بمزيج من السخرية والدهشة: “أفي وقت قصيرٍ تُقنعني أن أصير مسيحيًا؟”
فقال بولس: “سواء في وقت قصير أو طويل، أصلّي إلى الله أن لا يكون أنت فقط، بل جميع الذين يسمعونني اليوم، يصيرون مثلما أنا، ما عدا هذه السلاسل!”
عندئذٍ، نهض الملك والوالي وبيرنيكة وجميع الحاضرين، وخرجوا يتناقشون فيما بينهم قائلين: “إن هذا الرجل لم يفعل شيئًا يستحق الموت أو القيود!” وقال أغريباس لفستوس: “كان يمكن أن يُطلق هذا الرجل لو لم يكن قد رفع دعواه إلى قيصر!”
وهكذا، بقيت شهادة بولس قويةً أمام الملوك والولاة، لأن الرب كان معه، وكانت كلمة الله تنمو وتزداد قوة، رغم كل القيود والاضطهادات.