**قصة تذكَّر نِعَم الرَّبّ: تأمُّل في تثنية 8**
في تلك الأيَّام، عندما وقف موسى، عبدُ الرَّبّ، أمام بني إسرائيل عند مشارف أرض الموعد، بعد أربعين سنة من التِّيه في برّيّة سيناء القاحلة، تكلَّم بكلماتٍ تحمل في طيّاتها ذكريات الماضي ووعود المستقبل. كانت الشمس تميل نحو الغروب، تاركةً خلفها ظلالًا طويلةً تمتدُّ على وجوه الرِّجال والنِّساء والأطفال الذين تجمَّعوا حوله. كان الجوّ حارًا وجافًّا، لكنّ كلمات موسى كانت كالنَّدى على قلوبهم المتعبة.
رفع موسى صوته، وهو يحدِّق في الأعماق، كأنّه يرى كلّ ما حدث خلال تلك السّنوات الطويلة: **”اُذْكُرْ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّذِي سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْبَرِّيَّةِ!”**
تذكَّر الشعب كيف أخرجهم الله من أرض العبودية، مصر، بقوّة عظيمة ويدٍ ممدودة. رأوا بعيونهم كيف شقَّ البحر الأحمر أمامهم، وكيف أطعمهم المنَّ من السَّماء كلَّ صباح، والماء من الصَّخر العطشان. لكنّهم أيضًا تذكَّروا كيف تذمَّروا مرارًا، وكيف اختبرهم الرَّبّ بالجوع والعطش ليعلّمهم أنَّ الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله.
**”فَأَذَلَّكَ وَأَجَاعَكَ وَأَطْعَمَكَ الْمَنَّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ وَلاَ عَرَفَهُ آبَاؤُكَ.”**
كان المنُّ ينزل مع النَّدى كلَّ ليلة، وفي الصَّباح يجمعه الشعب كالطَّلّ الأبيض النَّاعم. كانوا يطحنونه ويخبزونه، فيصير كأقراص العسل. لكنَّ الله لم يُعطِهم هذا الطَّعام فقط ليشبعوا، بل ليعرفوا أنَّ الحياة الحقيقيّة ليست في الامتلاك، بل في الاتِّكال على مَن يُعطي الخير.
ثمَّ تابع موسى كلامه، وصوته يهتزُّ بمشاعر الأبوَّة الرّوحيَّة: **”اِحْفَظْ وَصَايَا الرَّبِّ إِلهِكَ، لِتَسْلُكَ فِي طُرُقِهِ وَتَتَّقِيَهُ.”**
كانت العيون تلمع بالدُّموع، لأنَّهم عرفوا أنَّ الرَّبّ لم يجرِّبهم ليهلكهم، بل ليُصلح قلوبهم، كما يُنقِّي الفضَّة في النَّار. حذَّرهم موسى من خطيَّة النِّسيان، لأنَّه يعرف أنَّ القلوب تميل إلى الكبرياء عندما تمتلئ بالخير. **”فَإِذَا أَكَلْتَ وَشَبِعْتَ، وَبَنَيْتَ بُيُوتًا جَيِّدَةً وَسَكَنْتَ فِيهَا… فَلاَ يَرْتَفِعْ قَلْبُكَ فَتَنْسَى الرَّبَّ إِلهَكَ!”**
وتطلَّع موسى نحو الجبال البعيدة، حيث أرض كنعان الخصبة، التي تفيض لبنًا وعسلًا، فذكَّرهم أنَّ هذه النِّعم ليست بسبب برّهم، بل بسبب وعد الله لأبيهم إبراهيم. **”لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ الَّذِي يُدْخِلُكَ أَرْضًا جَيِّدَةً، أَرْضًا تَجْرِي مِنْهَا أَنْهَارٌ وَعُيُونٌ!”**
وفي النِّهاية، حذَّرهم من العاقبة المُريعة لو نسوا الله واتَّكَلوا على أنفسهم: **”إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْسَى الرَّبَّ إِلهَكَ وَسِرْتَ وَرَاءَ آلهَةٍ أُخْرَى، فَاعْلَمْ أَنَّكُمْ لا مَحَالَةَ تَهْلِكُونَ!”**
ساد صمتٌ ثقيلٌ على الجمع، وكأنَّ كلَّ كلمة كانت مسمارًا يُطرَق في ضمائرهم. فهموا أخيرًا أنَّ البرّيّة كانت مدرسةً إلهيَّةً، وأنَّ الذَّاكرة هي السِّلاح ضدّ الكبرياء.
وهكذا، وقف بنو إسرائيل على أعتاب أرض جديدة، ليس فقط بحاجة إلى أن يدخلوها بأقدامهم، بل أن يدخلوها بقلوبٍ شاكرةٍ، تذكر دائمًا أنَّ كلَّ نعمة هي من يد الرَّبّ الرَّحيم.