**نشيد الرثاء: دموع أورشليم في ظل الغضب الإلهي**
كانت أورشليم، المدينة العظيمة، جالسة في ذلّها بعد أن حلّ بها غضب الرب. كانت الشمس تغرب خلف جبل الزيتون، تاركةً خلفها ظلالاً طويلة تمتدّ على أطلال الهيكل المحطّم. الدخان لا يزال يصعد من بين الحجارة المحروقة، والريح تحمل أنين الأمهات وأصوات الأطفال الجائعين.
**”كيف تَغيّر الذهب الخالص!”** هكذا بدأ المرثاة، وكأن المدينة نفسها تئنّ تحت ثقل الخطيئة والعقاب. كان أبناء صهيون، الذين كانوا يُشبَّهون بالذهب اللامع، قد صاروا الآن آنية خزف مكسورة تحت أقدام الغزاة. كانوا يوماً كريماً، مشهوداً لهم بالجمال والقوة، لكنّهم الآن مطروحون في الشوارع، بلا كرامة، بلا مجد.
**”إن بني صهيون الأطهار، الذين كانوا يُقَدَّرون بوزن الذهب، صاروا الآن مثل الفخار، صنعة أيدي الخزّاف!”** كان الكهنة والشيوخ، الذين كانوا يقودون الشعب في طرق البرّ، يتدحرجون في الأتربة، وجوههم مغطّاة بالرماد. لم يعودوا يبحثون عن الخبز، بل صاروا يلتقطون الفتات من بين الأنقاض، بينما بطونهم تلتصق بأضلعهم من شدة الجوع.
**”الرضّع يطلبون الخبز، ولا يوجد مَن يكسر لهم!”** كانت الأمهات، اللواتي كنّ يُرضعن أطفالهنّ بحنان، قد تحوّلن إلى حجارة. عيونهنّ جافة من البكاء، وأيديهنّ مرتخية من اليأس. الأطفال، الذين كان ضحكهم يملأ أزقة المدينة، صاروا يموتون في أحضان أمهاتهم، وشفتاهم الزرقاء من العطش تتحرك في صمت، كأنها تطلب قطرة ماء لن تأتي.
**”كان الأغنياء يترفّعون على الفقراء، والآن هم أنفسهم يتدحرجون في القذر!”** الأشرار الذين عاشوا في ترف، يرتدون الأرجوان والحرير، صاروا الآن يلفّون أنفسهم في الخرق البالية. جثثهم منتشرة بين الأنقاض، بلا دفن، بلا رثاء. لم يعد أحد يبكي عليهم، لأن الدموع نفسها قد نضبت من العيون.
**”خطيئتنا كانت أعظم من خطيئة سدوم!”** صرخ الشعب في مرارته. سدوم، التي أهلكها الرب بنار وكبريت، لم تُدمّر في لحظة كما دُمّرت أورشليم. هناك، كانت النقمة سريعة، أما هنا، فالعذاب بطيء، مؤلم، كالنار التي تأكل الجسد قطعة قطعة.
**”كان وجه الرب غيوراً على شعبه، فأسلَمهم ليد الأعداء!”** الكلدانيون، القساة القلوب، داسوا الهيكل بأقدامهم، ودنّسوا قدس الأقداس. لم يرحموا شيخاً ولا طفلاً. السيوف لم تفرق بين البريء والمذنب. الدماء سالت في الشوارع حتى صارت كالنهر، والرائحة النتنة للموت ملأت الأجواء.
**”نحن ننتظر عبثاً عوناً من الأمم!”** كانوا يظنون أن مصر أو أدوم ستأتي لإنقاذهم، لكن الجميع تخلّوا عنهم. الأعداء ضحكوا عليهم، وقالوا: **”أين هو إلهكم؟ أين هو الهيكل الذي تفتخرون به؟”**
لكن في وسط هذا الظلام، كانت هناك شرارة رجاء. **”عقابك يا رب سينتهي، وغضبك لن يدوم إلى الأبد!”** نطق البعض بهذه الكلمات في سرّهم، مؤمنين أن الرب رحيم، وأنه حتى في وسط الدينونة، تبقى محبته أقوى من الموت.
وهكذا، بين الدموع والرماد، بين الصرخات والصمت، تعلّم شعب يهوذا أن خطيئتهم جرّت عليهم هذا العذاب، لكنّهم تذكّروا أيضاً أن ربّهم هو إله الغفران. **”أرجعنا إليك يا رب، فنرجع!”** كانت هذه صلاة القلوب المنكسرة، التي بدأت ترى نور المغفرة يتسلّل بين السحب السوداء.
ففي النهاية، حتى في أقسى لحظات العقاب، يبقى الرب إلهاً يحنو على أبنائه، وينتظر توبتهم، ليعيد بناء ما دمّروه بخطاياهم.