**القوة في الضعف: قصة مستوحاة من كورنثوس الأولى 2**
في مدينة كورنثوس العظيمة، حيث تلتقي الثقافات وتتنوع الأفكار، كان بولس الرسول يسير في شوارعها الضيقة، محملاً بقلب ملتهب بمحبة المسيح. كانت المدينة تعج بالفلاسفة والخطباء الذين تفاخروا بحكمتهم البشرية وفصاحتهم، لكن بولس عرف أن رسالته مختلفة. لم يكن يحمل كلمات بليغة أو حكمة عالمية، بل كان يحمل سراً إلهياً غامضاً—صليب المسيح.
في أحد الأيام، بينما كان بولس يجلس في ظل شجرة زيتون قرب الميناء، تحدث إلى مجموعة من المؤمنين الجدد الذين كانوا مرتبكين بسبب تعاليم العالمين حولهم. نظر إليهم بعينين حكيمتين مليئتين بالروح القدس، وبدأ يحكي لهم قصة لا عن قوة البشر، بل عن قوة الله الخفية في الضعف.
**”أيها الإخوة، عندما أتيت إليكم، لم آتِ ببلاغة أو بحكمة بشرية لأعلن لكم سر الله،”** قال بولس بصوته الهادئ لكنه القوي. **”بل كنت بينكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة، وكلامي وكرازتي لم يكونا بإقناع كلام الحكمة البشرية، بل بإظهار الروح والقوة.”**
تذكر بولس الأيام التي قضاها في كورنثوس، وكيف رفض أن يعتمد على الفصاحة أو الفلسفة اليونانية التي كانت تُقدَّر كثيراً في تلك المدينة. بدلاً من ذلك، اعتمد كلياً على قوة الروح القدس. كان يعلم أن حكمة هذا العالم ستزول، لكن كلمة الله تبقى إلى الأبد.
ثم أخذ نفساً عميقاً وواصل: **”نحن نتكلم بحكمة بين الكاملين، لكنها ليست حكمة هذا العالم، ولا حكمة رؤساء هذا العالم الذين يبيدون. بل نتكلم بحكمة الله المكتومة، التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا.”**
كانت عيون المستمعين تتسع بينما كان بولس يشرح كيف أن حكمة الله كانت مخفية عن العظماء والأقوياء، لكنها كُشفت للبسطاء والمتواضعين بالروح. **”لو عرفوا، لما صلبوا رب المجد!”** قال بحزن مختلط بنصر.
ثم أشار بولس إلى السماء، وكأنه يرى ما لا يراه الآخرون: **”لكن كما هو مكتوب: ‘ما لم ترَ عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ما أعده الله للذين يحبونه.’ لنا نحن قد أعلنه الله بروحه. لأن الروح يفحص كل شيء، حتى أعماق الله.”**
بدأ الحاضرون يفهمون أن بولس لم يكن يتكلم من تلقاء نفسه، بل كان الروح القدس هو الذي يعمل من خلاله. لقد أدركوا أن الإيمان ليس مجرد فكرة فلسفية، بل هو علاقة حية مع الله، الذي يكشف أسراره لقلوب المؤمنين.
في النهاية، أمسك بولس بيد أحد الشبان الذي بدت عليه علامات اليقين الجديد، وقال: **”الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، لأنه عنده جهالة. أما الروحي فيحكم في كل شيء، وهو لا يُحكم فيه من أحد. لأن من عرف فكر الرب حتى يُعلّمه؟ أما نحن فلنا فكر المسيح!”**
هكذا، في ذلك المساء تحت أشجار الزيتون، تعلم المؤمنون في كورنثوس درساً لن ينسوه: أن قوة الإيمان لا تكمن في حكمة البشر، بل في روح الله الذي يعمل في الضعفاء ليُخزي الأقوياء. وانصرفوا وهم ممتلئون بفهم جديد—أن سرّ الملكوت ليس للعظماء، بل للمتواضعين الذين يقبلون نور المسيح في قلوبهم.